الإنسان بين الخلق والتكليف

الإنسان بين الخلق والتكليف

الإنسان بين الخلق والتكليف: من أحسن تقويم إلى مقام الخلافة

التمهيد:

تصوّر، أيها المسلم، أن الله تعالى خلقك في أحسن صورة وأتقن تقويم، وأودع فيك من روحه، ثم كرمك فوق سائر المخلوقات، وأسجد لك الملائكة، ثم جعلك خليفة له في الأرض. ما أعظم هذا الشرف، وما أثقل هذه الأمانة! إنك لم تُخلق عبثاً، ولم تُترك سُدى، بل خُلقت لأجل رسالة سامية، ومنهج عظيم، وطريق مستقيم، يؤدي بك إلى رضوان الله وجنته.

إن إدراك هذا المعنى يجعل المسلم يسمو بنفسه فوق كل خوف زائف، وفوق كل ضعف داخلي، ويرسّخ في قلبه أن لا يخاف إلا الله، ولا يطلب العزة إلا من الله، ولا يطمئن إلا برضا الله، ولا يهاب أحدًا من الخلق، لأن خالقه الذي كرّمه واصطفاه أقرب إليه من حبل الوريد.

المحور الأول: خلق الإنسان في أحسن تقويم

قال الله تعالى:

﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: 4].

أحسن تقويم في الجسد والعقل، في المشاعر والإرادة، في النُطق والفِكر، في القامة والهيئة، في القدرة على الاختيار، والقدرة على التعلُّم، ووعي الذات، ومَلَكة الابتكار والتخطيط.

بينما سائر الكائنات خُلقت لتنفذ مهام محدودة لا تخرج عنها، خُلِق الإنسان ليحمل الأمانة التي أشفقت منها السموات والأرض.

فليس جمالك الخارجي فقط هو ما يميزك، بل ما أودعه الله فيك من قدرات لا توجد مجتمعة في غيرك من الخلق.

وقد دلّ هذا التكريم على أن الإنسان مؤهلٌ بالفطرة، وقادرٌ بالتكوين، على السير في طريق الكمال، واكتساب المعارف، وتحقيق العدل، وإقامة العبودية الطوعية لله.

المحور الثاني: تكليف الإنسان بالخلافة في الأرض

قال تعالى:

﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30].

الخلافة ليست سلطة دنيوية عابرة، بل هي مسؤولية عظمى: أن تعمّر الأرض بما يرضي الله، وأن تكون أمينًا على الكون والحياة، وأن تُصلح ولا تُفسد، وتبني ولا تهدم، وتؤدي الأمانة لا أن تخونها.

إنك لست مجرد كائن يعيش ثم يموت. بل أنت خليفة، موكّل من خالق السماوات والأرض، لتعمل وفق إرادته، وتنفّذ مراده، وتكون آيةً من آياته في الأرض.

هذا التكليف يفرض على المسلم ألا يستسلم للكسل، ولا يتخاذل في وجه الصعاب، بل ينهض ويبني ويصلح، في بيته، ومجتمعه، وعمله، وكل مجال يُتاح له أن يكون فيه مأجورًا لا مأزورًا.

المحور الثالث: عبادة الله غاية الخلق ومنبع القوة

قال تعالى:

﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].

العبادة ليست طقوسًا منعزلة عن الحياة، بل هي حياة كاملة في طاعة الله، وتحقيق إرادته، واستحضار مراقبته، والقيام بما يحبّه الله ويرضاه.

وحين يعرف الإنسان أن غايته هي عبادة الله، يصبح لحياته معنى، ولكل خطوة هدف، ولكل عمل غاية سامية.

وحين يعبد الإنسان ربّه بحق، ويتذوّق حلاوة القرب منه، تزول عنه المخاوف، ويتحرر من القلق، ويتخلّص من التعلّق بالناس، لأنه صار في معية من بيده كل شيء.

ولهذا قال النبي ﷺ لعبد الله بن عباس رضي الله عنه:

(( يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظُ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظُ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُف)). [رواه الترمذي].

المحور الرابع: لا تخف إلا من الله

الخوف شعور طبيعي، لكن المؤمن يضبطه ويوجهه توجيهًا صحيحًا.

فالخوف من الله طاعة، والخوف من الخلق ضعف.

الخوف من الله يُعلي الهمة، ويزكي النفس، ويقوّي الإرادة.

بينما الخوف من المخلوق يُذل القلب، ويضعف العقل، ويقود إلى النفاق والمداهنة.

قال الله تعالى:

﴿فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾ [المائدة: 44].

وقال النبي ﷺ:

لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. رواه أحمد وصححه السيوطي والألباني.

من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى الناس عنه، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس

فالمسلم القوي هو الذي يجعل خوفه كله من الله، فلا يخاف على رزقه، لأن الله هو الرزّاق، ولا يخاف من الموت، لأن الموت حق وميعاد، ولا يخاف من ظلم الناس، لأن الله يدافع عن الذين آمنوا.

المحور الخامس: لا تخف من الفقر ولا الموت

الرزق بيد الله، لا بيد البشر، والله قدّر أرزاق العباد قبل أن يُخلقوا، فلا ينبغي للمسلم أن يُذلّ نفسه لأجل لقمة العيش.

قال تعالى:

﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ [الذاريات: 22].

وقال ﷺ:

"لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير: تغدو خماصًا وتروح بطانًا" [رواه الترمذي].

وكذلك الموت، هو انتقال لا نهاية، هو ولادة أخرى، لا ينبغي أن نخشاه بل نتهيّأ له.

من خاف من الموت فاته العيش، ومن استعدّ له ربح الخلود.

قال الرسول صلى الله عليه وسلم:

"الموت تحفة المؤمن". المستدرك للحاكم

لأن الموت بداية اللقاء مع الله، والراحة من عناء الدنيا، إذا ما سبقته حياة صالحة.

المحور السادس: المسلم القوي أحب إلى الله من المسلم الضعيف

قال النبي ﷺ:

"المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير..." [رواه مسلم].

المقصود هنا قوة النفس، وقوة الإرادة، وقوة الإيمان، وقوة الشخصية، لا مجرد العضلات.

المؤمن القوي لا ينهار أمام الابتلاء، ولا يساوم على دينه، ولا يخنع في وجه الظلم، ولا يُذلّ نفسه لأحد.

المؤمن القوي يعمل ويتوكل، يخطط ويجتهد، يزرع ويحصد، يبني ويصلح، ويكون شعلة أمل في مجتمعه، لا عبئًا عليه.

وقد كان الصحابة نماذج في ومنهم رضي الله عنهم وأرضاهم:

أبو بكر... القوة في الثبات.

عمر... القوة في العدل.

عثمان... القوة في الجود.

علي... القوة في العلم والجهاد.

خديجة... القوة في الدعم والإيمان.

فاطمة... القوة في الصبر والاحتساب.

الخاتمة: كن كما أرادك الله، لا كما يريدك الناس

أيها المسلم، تذكّر دائمًا:

أنت مخلوق في أحسن صورة.

أنت خليفة الله في أرضه.

أنت مكلّف بعبادته.

أنت مأمور ألا تخاف إلا منه.

رزقك عنده، وأجلك بيده، ومصيرك إليه.

فلماذا الخوف من المخلوق؟

ولماذا التردد في السير نحو ما يرضيه؟

ولماذا الخنوع للباطل؟

ولماذا الذل في طلب المعيشة؟

ارفع رأسك...

تزود بالإيمان...

اصدق مع الله، وتوكل عليه، وافتح قلبك للأمل، وابنِ حياتك على الثقة بوعد الله.

قال ابن القيم:

"لو أن الله أوحى إلى العبد يومًا وقال له: سأكون وكيلك في أمرك، لما خاف من شيء، فكيف وهو يقول: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾؟".