رحلة داخل الجسد المعجز
إبداع الله في خلق الإنسان: رحلة داخل الجسد المعجز
يقول الله تعالى في كتابه العزيز:
﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: 21].
هذه الآية الكريمة دعوة مفتوحة للتأمل في أعظم مخلوق على وجه الأرض: الإنسان. فكل خلية في جسده، وكل وظيفة يؤديها، تدل على عظمة الخالق وكمال صنعه، وتدفع المتأمل إلى الإيمان بالله خالقًا، عظيما، مبدعا، رحمانًا، رحيمًا.
أول الأنفاس... نعمة الحياة
بداية الحياة تبدأ بنفس. هذا النفس الذي ندخله ونخرجه دون أن نشعر، هو في الحقيقة معجزة معقدة. يدخل الهواء من الأنف، ليمر عبر القصبة الهوائية، ثم يتفرع إلى الشعب الهوائية، حتى يصل إلى الحويصلات الهوائية في الرئتين. وهناك، يتم تبادل الغازات: يدخل الأكسجين إلى الدم ويخرج ثاني أكسيد الكربون. يتم هذا التبادل عبر جدران رقيقة لا يتجاوز سمكها شعرة الإنسان، لكن دقتها وإحكامها يعجز عنه أعتى المهندسين.
والأعجب من ذلك، أن الدم يعلم تمامًا أين يحمل الأكسجين. خلايا الجسم تنتظر هذا الغاز الحيوي، والدم يلبي النداء دون أمر صريح، بل بإلهام رباني دقيق.
كيف نأكل؟ وكيف يهضم الطعام؟
من نعم الله على الإنسان أنه هيأ له سبل التغذية؛ فالفم أول محطة في هذه الرحلة. تبدأ العملية بمضغ الطعام، حيث تعمل الأسنان واللعاب معًا لتكسير الطعام وتليينه. ثم ينتقل عبر المريء إلى المعدة، حيث يبدأ التحول الكبير: تقوم العصارات الهضمية بتحليل الطعام إلى عناصره الأساسية.
ثم تأتي الأمعاء الدقيقة، وهي مسرح لا يُرى ولكن تجري فيه أعظم العمليات. هناك تُمتص السكريات، والدهون، والبروتينات، والفيتامينات، والمعادن... وكل منها له طريقة نقل مختلفة، وكل جزء في الجسم يعرف ما يحتاجه منها، ويحصل عليه دون صراع أو خلل. هذا التنظيم العجيب لا يمكن أن يكون صدفة، بل هو من آثار الحكمة الإلهية.
ثم... إلى كل خلية رزقها
بعد الامتصاص، تُنقل المغذيات عبر الدم إلى كل خلية في الجسم، من الدماغ إلى أطراف الأصابع. وما يثير الدهشة أن كل خلية تعرف غذاءها، وتستقبله بطريقة خاصة تناسب وظيفتها ومكانها. فخلايا القلب تحتاج طاقة مستمرة، وخلايا الكبد لها دورها في التنقية والتخزين، وخلايا العضلات تستعد للحركة... وكل هذا يتم بلا فوضى ولا ازدواجية، وإنما بنظام بديع لا يملك الإنسان إلا أن يقول بعد تأمله: "تبارك الله أحسن الخالقين".
إخراج الفضلات... نظافة الجسم الداخلية
كما أن الجسد يستفيد من الطعام، فهو يطرد ما لا يحتاج إليه. الكبد يقوم بتصفية السموم، والكلى تخلص الدم من الفضلات عبر البول، والأمعاء الغليظة تجهز بقايا الطعام لتخرج كفضلات صلبة. هذه العملية المعقدة من التصفية والتنظيم تحتاج إلى عشرات الإنزيمات والأوامر الكيميائية. وكل جهاز يعمل بدقة دون أن نأمره أو نراقبه.
ويكفي الإنسان أن يُصاب بخلل بسيط في هذا النظام، حتى يشعر بالعجز والضيق، ويستشعر كم هو عظيم أن يعمل الجسد بصمت وكمال.
بين العلم والإيمان
قد يفهم العلماء كيف تتم هذه العمليات، لكنهم لا يستطيعون تفسير لماذا تعمل بهذا الإتقان، ومن علّم كل خلية وظيفتها، ومن نظّم هذه الملايين من التفاعلات كل لحظة. وهنا، يجد العقل الصادق نفسه أمام طريق واحد: الاعتراف بعظمة الخالق، والخضوع لجلاله.
قال تعالى:
﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [النمل: 88].
فكل ذرة في الإنسان، بل كل نبضة وكل نفس، هو توقيع إلهي على دفتر الخلق، ودليل على أن وراء هذا الجسد العظيم صانعًا لا يُضاهى.
الخاتمة: التأمل طريق الإيمان
إن التفكر في خلق الإنسان ليس تمرينًا علميًّا فحسب، بل هو عبادة قلبية، توقظ في النفس نور الفطرة، وتقرّبها من خالقها. فكم من ملحد اهتدى حين تأمل في عينه، أو في ضربات قلبه، أو في لحظة تنفس! وكم من مؤمن زاد إيمانه حين تأمل في نعم الله الخفية والظاهرة!
فلنستجب لنداء القرآن:
﴿قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [يونس: 101]،
وننظر كذلك إلى ما في أنفسنا، لأن النفس مرآة الإبداع الإلهي، وفيها من الآيات ما يكفي لطمأنة القلب وإرواء العقل.
وأخيرا وليس آخرا، دعوة للتفكر والإيمان
أيها الإنسان، إن جسدك الذي بين يديك ليس ملكك، بل هو أمانة أودعها الله فيك، تسير فيه الحياة بأمره، ويتوقف كل شيء فيه بإذنه. فهل يعقل أن تكون هذه المعجزة العظيمة التي تسكنك جاءت عبثًا، بلا خالق، ولا حكمة، ولا غاية؟!
تأمل كيف يُطعِمك ربك، وكيف يحفظك، وكيف يُمهلك، مع أنك كثيرًا ما تنسى، وتغفل، بل وربما تكفر. تأمل كيف يرزقك كل خلية قوتها، ويمنحك الصحة والنَفَس، وأنت لا تملك من ذلك شيئًا.
إن الإيمان بالله – خالق الإنسان ورب العالمين – ليس خيارًا فلسفيًّا، بل هو حقيقة تفرض نفسها على كل عقل صادق، وقلب سليم. هو خالقك، ورازقك، ومحييك، ومميتك، ثم إليه المصير، قال الله تعالى:
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَٰلِكُم مِّن شَيْءٍ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الروم: 40].
وسيأتي اليوم الذي يُحشر فيه الناس جميعًا بين يديه، يوم لا ينفع فيه مال ولا جاه، بل ينفع فيه قلبٌ سليمٌ خاشعٌ لخالقه. يقول تعالى:
﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا ۚ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ ۚ وَذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [التغابن: 7].
فيا من تقرأ، لا تؤجل إيمانك، ولا تتغافل عن الحق. ارجع إلى فطرتك، وانظر في نفسك، واستجب لنداء الخالق، فإنه أقرب إليك من حبل الوريد، وهو أرحم بك من نفسك.
