ليس منا من لم يوقر كبيرنا

ليس منا من لم يوقر كبيرنا

ليس منا من لم يوقر كبيرنا

لماذا يُسيء بعض الناس إلى من هم أكبر منهم سنًا من حيث يدرون أو يجهلون؟ أسباب متعددة تتداخل فيها التربية، والنفس، والمجتمع وغير ذلك. إليكم بعضاً من هذه الأسباب:

  • الجهل بمكانة الكبار وأهمية توقيرهم:

الأدب ليس بالضرورة أن يكون مقررًا دراسيًا، ولا سلوكًا يجيء مع الشهادات. هو شيءٌ يُغرس في القلب منذ الصغر. من نشأ في بيتٍ يُحسن فيه الصغير الإنصات للكبير، ويتعلم فيه كيف يتعامل مع من تقدّمه الأيام عمرًا، شبّ وفيه بذور الهيبة والتوقير. أما من نشأ في بيئةٍ فوضوية، أو في بيتٍ أخرس الأدب، فإنه قلّ أن يقدّر للسن مقامًا، أو للشيبة أو للمقام حرمة.

  • كثير من الناس لم يتربَّوا على مبدأ توقير الكبير واحترامه، بل نشأوا في بيئات لا تهتم أو لا تعير اهتماماً أكثر من اللازم للتوقير والاحترام أو أنها بيئات تضعف فيها القيم الأخلاقية، ولا يُعلّم فيها الصغير كيف يتعامل مع الأكبر منه.

  • ضعف التوجيه ضمن الأسرة التي يتربى فيها الشخص، في البيت، مع أقرانه حين يجتمعون أو في المدرسة التي كثيراً ما يقوم التعلم فيها من أجل العلم والتعلم وليس الأدب والتأدب والتخلق بالأخلاق الكريمة مما يؤدي إلى جهل بعواقب التصرّف غير اللائق مع الكبار. وما جاء خاتم الأنبياء والرسل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم إلا ليتمم مكارم الأخلاق.

  • صِغَر السن وضعف النضج العقلي والعاطفي:

ربما يكون المسيء صغيرًا، لكنه لا يُعذر دومًا بصغره. فكم من صغيرٍ أذهل الكبار بأدبه، وكم من شابٍ تجاوز سنّ الرجولة وهو لا يعرف للسانه زمامًا. السن لا يحكم دائمًا، ولكن النضج يحكم، والفطرة السليمة تعرف طريقها حتى في الصدور الغضّة.

  • كما أنه ليس بالضرورة أن يكون كل صغير مسيئًا، لكن في مراحل معينة من العمر (وخاصة المراهقة) وقد تمتد لتكون في مراحل عمرية أكبر حتى الأربعين مثلاً، يغلب الطيش وسوء التقدير، وتقل القدرة على ضبط اللسان والانفعال.

  • قد يظن الشاب أن اعتراضه على الكبير أو نقده الجارح يدل على شخصية قوية، وهو في الحقيقة نقص في النضج.

  • قلة الخبرة الاجتماعية والاحتكاك بالناس:

الخبرة تُعلّم صاحبها كيف يُحدّث هذا دون ذاك، وكيف ينتقي كلماته إن كان في حضرة رجلٍ يكبره بضع سنين أو بلغ من الكبر عتياً. أما من قلّ احتكاكه بالناس، وأغلق على نفسه أبواب العزلة، فإنه كثيرًا ما يخلط بين الجُرأة والوقاحة، وبين الصراحة والفظاظة.

  • يتعلّم الإنسان مع الوقت أن للناس مقامات، ولكل مقامٍ مقال.

  • قلة الخلطة مع الناس والأقران وغيرهم، بمعنى آخر، من قلّت معاشرته للناس وممارسته الحديث معهم لا يُحسن التفريق بين المزاح والوقاحة، أو بين الصراحة والفظاظة.

  • فقدان القدوة:

بعضهم فُطر على الجفاء، ولسانه ما اعتاد التلطّف. لكنّ الإنسان ليس أسير طبعه، ومن راقب نفسه، وجاهدها، وحرص على حسن الصحبة، تبدّلت فيه الأخلاق، وتروّض فيه اللسان.

  • حين لا يرى الشاب في بيئته من يُحسن الحديث مع الكبار، أو يرى أباه يُسيء إلى الجد، أو المعلم يهين الشيخ، فإن صور الاحترام تتكسر في ذهنه، ويألف أن «الكِبر في السن» لا يُقابَل بالهيبة والاحترام والتقدير.

  • خلل في التربية القيمية والأخلاقية:

حين يظن الشاب أن شهادته تُغنيه عن الاستماع إلى حكمة شيخ، أو أن ماله يُعفيه من احترام كبير، فإنه يكون قد أُصيب بداء العُجب، وغفل عن حقيقة الحياة: أن الفضل ليس في الأرقام ولا الأوراق، بل في الخلق والتجربة وسِعة الصدر.

  • بعض الأسر تُركّز على النجاح الدراسي دون بناء الشخصية، فيكبر الابن بشهادات عالية لكنه لا يُحسن مخاطبة رجل مُسنّ أو امرأة كبيرة في السن وقد ترى البعض منهم يتكلم من أنفه.

  • ينبغي للشاب أو الشابة تعلم القيم والأخلاق من خلال قدوة حسنة لئلا يحصل الخلل في العلاقات بين من هم أكبر سناً أو قدراً.

  • الكِبر والغرور العلمي أو المالي:

في زمن التواصل السريع، بات الكل يتحدث إلى الكل دون حواجز، وسقطت كثير من الهيبة. رأينا شابًا يُهاجم عالمًا أو مدرساً، ومراهقًا يسخر من شيخ أو قريب له، كبير في السن، بحجة "الرأي الحر". لكن الأدب ليس قيدًا، بل زينة. ومن لم يزن كلماته في حضرة من يكبره، تهاوت كرامته دون أن يدري وصغر أمام الغير وفقد الثقة.

  • قد يرى الإنسان نفسه أعلى شأنًا بسبب ما لديه من شهادة أكاديمية، أو منصب، أو مال، فيتوهّم أنه لم يعُد يحتاج لنصيحة الكبار، بل قد يراهم متخلّفين أو غير مواكبين للعصر. لا ننس أن البركة في كبار السن... وكما يقال في العامية: من لا كبير له فليشتري له كبيراً.

  • هذا النوع من الغرور يُعمِي صاحبه عن رؤية الفضل والخبرة التي تختزنها الأعمار الطويلة.

  • الطبع الجاف أو الخُلق السيء:

ديننا علّمنا أن توقير الكبير من الإيمان، وأن البركة فيمن علاه الشيب. فإذا غاب هذا المعنى، وخَفَت صوت الوازع، طغى اللسان، وساء الخُلق، وانقلب ميزان التقدير رأسًا على عقب.

  • بعض الأشخاص فظّون، غليظون بطبعهم، لا يفرّقون بين شاب أو شيخ، صغير أو كبير، فـ"اللسان سليط على الجميع".

  • هذا السلوك وإن كان عادة، إلا أنه قابل للتعديل، وقد أثبتت التجربة أن حسن الصحبة والمجاهدة تهذب الطباع.... يعني بإمكان الشاب وغيره من تعديل سلوكياتهم وتصرفاتهم بالمحاولة والتقليد إذا رغبوا.

  • البيئة الرقمية وثقافة "التقليل" من الآخرين:

  • الوسائل المتاحة في شبكات التواصل الاجتماعي غيّبت كثيرًا من مظاهر الاحترام، وساوت بين الجميع في الخطاب، وسمحت لكثيرين بإهانة الكبار تحت غطاء "الرأي"، أو "النقد"، أو "الحرية".

  • هذه البيئة غذّت عند بعض الشباب روح التجرؤ، والسخرية، واللامبالاة، والعدوان اللفظي على من يفوقهم سنًا أو خبرة.

  • انعدام الوعي بعواقب الإساءة للكبار:

  • كثيرون لا يدركون أن الإساءة للكبار تنعكس على مستقبلهم، وأن من يُهين اليوم سيُهان غدًا. فما بالك إذا كانت لوالدك أو لأحد أقاربك مثل الخال والعم مثلاً، فتلك طامة كبرى.

  • ولا ننسى أن بعض كبار السن يحملون في قلوبهم دعوة قد تكون مستجابة على من ظلمهم أو أهانهم.

  • غياب الوازع الديني أو ضعفه:

  • من يعرف حديث النبي ﷺ: «ليس منا من لم يوقر كبيرنا...»، ويؤمن بأن بركة العمر تُطلب ببرّ الوالدين وتوقير الشيوخ، لا يمكن له أن يُهين كبيرًا.

  • ضعف الإيمان يؤدي إلى ضعف الحياء، وانعدام الحياء يؤدي إلى التمادي في الإساءة.



خاتمة

الإساءة إلى الكبير سواءً كان أباً أو شيخاً كبيراً ليست زلّة عابرة، بل علامة على ضعف التربية وغياب نور الهداية؛ فهي تطعن في خلقٍ نبيلٍ عظّمه الشرع ووقّرته الفطرة، ألا وهو الوقار. وقد أمر الله ببرّ الوالدين، وهم رأس الكبار.

قال الله تعالى:

﴿وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء: 23]

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"ليس منا من لم يُوقر كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه" [رواه أحمد].

وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله:

" تَعلّموا العلم وعَلّموه النّاس، وتعلّموا الوَقار والسّكينة، وتَواضعوا لمَن تعلّمتم منه العِلم وتَواضعوا لِمن علّمتموه العِلم، ولا تكونوا من جَبابرة العلماءِ فلا يَقوم عِلمكم بِجهلكم... فالوقار ليس طبعًا يُولد به المرء، بل أدب يُكتسب، وسلوك يُهذَّب.

قال الحسن البصري:

فمن يستخف بالكبار فقد جهل قدرهم، وخالف سمت المؤمنين الذين قال عنهم الحسن البصري:

"ما أكرم العجائز إلا كريم، ولا أهانهم إلا لئيم".

و قال شعراء:

  • وَكَبِيرُ القَومِ لَا يُستَصغَرُهُ أَحدٌ وَإِن تَواضَعَ فِي خُلقٍ وَفِي أَدَبِ

  • "وما التأنيثُ لاسمِ الشمسِ عيبٌ ** ولا التذكيرُ فخرٌ للهلالِ

ولكنّ الكمالَ منَ الرجالِ هو التوقيرُ للأمجادِ والآجالِ"

وفي النثر قالوا:

"من علّمني حرفًا، كنت له عبدًا"، فكيف بمن سبقك بالعُمر والتجربة والتعب على طريق الحياة؟

وقال آخرون:

  • من يجهل مقام الكبار، صغُر في عين الكبار

  • احذر أن تكبر جسدًا وتصغُر أدبًا."

  • من لم يُخالط الناس لم يعرف مراتبهم،

  • ومن جهل المقام أساء الخطاب.