ما خُلِقنا عبثًا
*ما خُلِقنا عبثًا*
"أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا تُرجعون"
هكذا يخاطب الله تعالى الإنسان في كتابه، ليوقظه من غفلته، ويضعه وجهًا لوجه أمام الغاية الكبرى من وجوده، ويهزّه من أعماقه بهذه الحقيقة الجليلة: ما خُلِقنا عبثًا.
بداية الوعي
كلّ إنسان، مهما تكدّست حوله الماديات، ومهما انغمس في تفاصيل الحياة، تأتيه لحظة يسأل فيها نفسه: لماذا أنا هنا؟ ما الغاية من هذا الوجود؟ أيّ حكمة في هذه الحياة التي تبدأ ببكاء وليد، وتمضي في تعبٍ وسعيٍ، وتنتهي بصمت القبور؟
هذا السؤال – وإن تجاهله البعض – يسكن فطرة كل إنسان، لأنه كائن مفطور على البحث عن معنى.
نظرة في الكون
تأمّل في هذا الكون من الذرّة إلى المجرة، من دقة حركة الكواكب إلى تنظيم الخلية في الجسد، من تعاقب الليل والنهار إلى انتظام الفصول... هل يمكن لعاقل أن يقول إن هذا كله جاء مصادفة؟ أم أن وراءه إرادة حكيمة عليمة قدّرت كل شيء بميزان؟
يقول تعالى:
"وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين" [الأنبياء: 16]
فالكون ليس ملعبًا، والوجود ليس ساحة عبث. وراء كل خلق حكمة، ووراء كل تفصيل هدف.
خلق الإنسان: تكريم لا عبث
لم يُخلق الإنسان كغيره من المخلوقات التي تسير بغريزتها فقط، بل خُلق بعقلٍ يميز، ونفسٍ تختار، وإرادةٍ تتحرك في الاتجاه الذي تريد.
وقد كرّم الله هذا الكائن:
"ولقد كرمنا بني آدم" [الإسراء: 70]،
وكلّفه بأمانة عجزت عن حملها السماوات والأرض والجبال:
"إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها... وحملها الإنسان" [الأحزاب: 72].
وهذه الأمانة ليست إلا مسؤولية الاختيار، وحرية الإيمان والعمل. فهل يُعقل بعد ذلك أن تكون حياة الإنسان بلا غاية، ووجوده بلا معنى؟
الغاية الكبرى: عبادة واستخلاف
صرّح القرآن بغاية الخلق بوضوح:
"وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون" [الذاريات: 56]
فالعبادة ليست مجرد شعائر، بل هي نمط حياة يربط الإنسان بخالقه، ويجعله واعيًا أن كل عمل يقوم به، وكل موقف يتخذه، إنما هو ضمن دائرة الامتحان الإلهي.
وليس هذا فحسب، بل خُلق الإنسان ليكون خليفة في الأرض، يعمرها بالحق، ويقيم فيها العدل، وينهض بمهمة الإصلاح لا الإفساد.
"إني جاعلٌ في الأرض خليفة" [البقرة: 30].
لو كان عبثًا...
لو كان خلق الإنسان عبثًا، لما وُجد هذا النظام المحكم في جسده وروحه وعقله، ولما وُضعت القيم، ولما بُعث الرسل، ولا أُنزلت الكتب، ولا جُعل يومٌ للحساب، ولا جنةٌ ولا نار.
لكن لأننا لم نُخلق عبثًا، كانت هناك هداية، وكانت هناك رسالة، وكان هناك جزاء.
الشبهة القديمة – الحديثة
عبر العصور، حاول بعض الناس التملّص من هذه الحقيقة. تارة يقولون: الحياة مجرد صدفة، وتارة يقولون: هي عبث ولا معنى لها.
لكن هذه المزاعم، وإن راجت، لا تصمد أمام سؤال بسيط: لماذا نحزن إذا مات العزيز، ونفرح إذا شفِي المريض؟ لماذا نتألم للظلم، ونتوق إلى العدل؟ لماذا نحب، ونخاف، ونرجو؟
لو كانت الحياة عبثًا، لما بقي فيها موضع لمعنى، ولا تفسير لعاطفة.
في قلب كلّ إنسان برهان
الضمير الإنساني شاهد على أن الإنسان لم يُخلق للعبث. فالذي يشعر بالذنب حين يخطئ، ويشعر بالطمأنينة حين يحسن، إنما يستجيب لصوت داخلي يقول له: أنت مسؤول.
والمسؤول لا يكون عبثًا.
العاقبة: رجوع لا فناء
إذا كانت الحياة مجرد محطة، فإن لها نهاية، وبعد النهاية رجوع إلى الله:
"وأنكم إلينا لا تُرجعون؟"
هذا هو الامتحان الحقيقي. أن يعيش الإنسان واعيًا أنه عائد إلى ربه، وأن عمله لن يضيع، وأن وراء الموت حياة أخرى فيها يُوفّى كل امرئ ما عمل.
ما بين المعنى والضياع
الذي يؤمن بأن لحياته غاية يعيش في نور، ويعرف طريقه، ويتحمّل مشقّات الطريق لأنه يرى لها ثمرة.
أما الذي يظن أن حياته عبث، فهو يتخبط، ويسأل دائمًا: ما الفائدة؟ ما الجدوى؟ وربما يتمنى الموت لأنه فقد السبب الذي يعيش لأجله.
ما خُلِقنا عبثًا...
تذكّر هذه العبارة كلما فترت همتك.
كلما سئمت من الألم، أو أثقلتك الحياة.
كلما شعرت أن الطريق طويل، أو أن الصبر قد نفد.
قل لنفسك:
"ما خُلِقت عبثًا... أنا عبدٌ لله، ومستخلفٌ في الأرض، وراجعٌ إليه."
خاتمة: قيمة الحياة بمعرفة الغاية
ليست السعادة بكثرة المال ولا بطول العمر، بل السعادة الحقيقية أن يعرف الإنسان لماذا يعيش، ولأجل من يعمل، وإلى أين يمضي.
فمن عرف ذلك، فقد عرف أن حياته ليست عبثًا، بل هي أثمن ما يملك.
